- بشاير الزهراني
التحريف الخفيّ في الترجمة (الجزء الأول)

نمر حين نترجم بمصاعب عدّة، وأحيانًا لا تكمن الصعوبة في النص الذي نترجمه، بل فينا وفي الأفكار التي تؤثر في ترجمتنا دون وعي منا. أنطوان بيرمان -مترجم الفرنسي ينقل عن الألمانية والإسبانية وصاحب كتاب (الترجمة والحرف أو مقام البعد)- يناقش في كتابه المذكور سلفًا، أفكارًا كثيرة تستنكر انحياز المترجمين إما للمعنى أو للغة، ويرى أن علينا استحداث نظام ترجمة يهتم بالنسق والشكل وبنية النص معًا لينتقل معناه وإيقاعه بصورة صحيحة. محور مقالنا هنا فكرة في الفصل الثاني من الكتاب تحديدًا، حيث يناقش عدة مشكلات تعترض الترجمة والمترجم. ويذكر بيرمان أنها ليست مشكلات تنتهي بإدراكنا لها ووعينا بها، وإنما هي أشبه بعادات اكتسبناها وعلينا أن نتخفف منها ونحاول تنقية ترجماتنا منها. تندرج كل تلك المشكلات تحت ما يسمى "الميولات التحريفية" ويذكر المؤلف أن أغلبها تحدث في ترجمة النثر بشكل أكثر من الشعر، فالشعر لكثافة معناه وقصره تنكشف التحريفات فيه بسهولة. بينما تقبل تحريفات النثر لأنه أولًا أقل قيمة من الشعر، ولأن الرواية -مثلًا- إذا بدت ذات ترجمة جيدة وجماليّة مقبولة فإن التحريف في معناها وتعددية نصّها يكاد لا يُلتفت له. إذًا، ماهي الميولات التحريفية التي تحدث عنها برمان؟ هنا نوردها بإيجاز:
١- العقلنة
تتمثل العقلنة في إهمال محسوسية المعاني (concreteness) وترجمتها كمعان مجرّدة، والعذر في ذلك هو ثقل النص. وننقل عن الكتاب اقتباسًا أورده للمترجم الفرنسي لرواية دوستويفسكي الإخوة كارامازوف: "إن الثقل الأصيل لأسلوب دوستويفسكي يطرح أمام المترجم مشكلة صعبة الحل، فمن المستحيل نقل هذه الجمل الكثيفة رغم غنى مضمونها..."
٢- التوضيح
يأتي التوضيح في الترجمة كنتيجة للعقلنة، فبعد أن يتعدى المترجم على تعددية النص ليجعله نصًا أحاديًا ومجردًا، يحتاج أن يلجأ إلى التوضيح. الترجمة بطبيعتها هي ترجمة مُفسرة، لكن لا يحق لها أن توضح وتشرح ما لم يرد له أن يكون مشروحًا وموضحًا في النص الأصل، ويؤكد برمان أن المعنى الذي ظل خفيّا في النص الأصل يفترض أن يتوارى كذلك في النص المترجم.
٣- التطويل
حين تتطلب العقلنة والتوضيح تطويلًا وبسطًا لما كان منطويًا في النص الأصل، فهي بذلك تطول أكثر من الأصل. ويقول برمان عن الترجمة المطولة لرواية موبي ديك: "إن التطويل هنا يعمق التشوه الأصلي للعمل وينقله من تشوّه ممتلئ إلى آخر فارغ." وأكثر ما يفسد التطويل في النص هو أنه يجعل النص الذي كان مختصرًا عميقًا وذا دلالات لا متناهية، يصبح مفرطًا في طوله ومسطحًا.
٤- التفخيم
يعمد المترجمون أحيانًا عن قصد أو غير قصد إلى تحميل لغة النص المترجم جماليّةً لم يركز عليها النص الأصل، مما يجعل الترجمة تتفوق على الأصل في جمالها "شكليًا" على حساب النسق اللغوية الأخرى. وأكثر ما يحدث هذا في الترجمات الأدبية، حيث يُركز على التحسين البلاغي للنصوص وعلى التحسين الشعري في مجال الشعر.
٥- الاختصار الكيفي
يتمثل الاختصار الكيفي في تجاوز الغنى الدلالي والصوتي (أو الجهيري) للكلمة، واستبدالها في الترجمة بكلمة تحمل نفس المعنى فقط، دون الالتفات لقيمة الأيقونة أو التناسق الصوتي الذي اختيرت الكلمة في النص الأصل على أساسه. وهذا يُفقد النص الكثير من غناه وحيويته.
٦- الاختصار الكمي
يتمثل الاختصار الكمي في النقصان المعجمي، فحين يستخدم المؤلف دوالّ عديدة لوصف الشيء الواحد وعدة أسماء لتسمية الشيء نفسه، ثم يقتصر المترجم على أحد الدوالّ والأسماء فهو يمسّ هنا تكوثر النص وغزارته. وفي بعض الأحيان يلجأ المترجم لاستخدام دوالّ تفسيرية أو أدوات الوصل (الذي) و (ما) لينتج نصًا فقيرًا وأطول في الوقت نفسه.