top of page
  • بشير زندال

عتبات النص و الترجمة : العنوان أنموذجا


عتبات النص و الترجمة : العنوان أنموذجا

اهتمت مناهج النقد الحديثة بعتبات النص أو النص الموازي ( paratexte ) ، لما تمثله من أهمية كونها هي الجسر الأول الذي يعبره القارئ نحو العمل. كان جيرار جينيت ( Gérard Genette ) من السباقين في تبني قضية العتبات عبر دراسات معمَّقة على مستوى التنظير ، في كتابَيْه: أطراس ( Palimpsestes) و (عتبات seuils). و العتبات هي كل ما يحيط النص من عنوان و غلاف و إهداء و كلمه ناشر أو حتى من مقابلات مع الكاتب أو دراسات حول النص كما سنبين لاحقاً. و لعتبات النص وظيفتان, وظيفة جمالية تتمثل في تزيين الكتاب وتنميقه، ووظيفة تداولية تكمن في استقطاب القارئ واستغوائه فتشجعه على تصفح الكتاب في البداية ثم الاقتناع بالكتاب و اقتنائه [1]. بل إن المظهر الوظيفي لهذا النص المجاور يتلخص أساسا -كما أشار جنيت- في كونه ( خطابا أساسيا، ومساعدا، مسخرا لخدمة شيء آخر يثبت وجوده الحقيقي، وهو النص ).[2]


أزمة المصطلح في النص الموازي


أختلف نقادنا - كعادتهم - في اختيار مصطلح لـكلمة ( paratexte ) و لن أخوض الآن في معناها الحرفي و لكن سأعرض ما قام به نقادنا (كل على حده) من ترجمة و نحت لمصطلح واحد و ليس موضوعنا الآن هو ( إشكالية المصطلح ) المرافقة لكل ما يأتي من خارج اللغة العربية من مصطلحات، لكن أود الإشارة إلى أن العرب قديما لم يخجلوا من التعريب (و ليس الترجمة) للمصطلحات الجديدة التي وفدت على العربية . فلم يخجل ابن رشد من استخدام كلمة (فلسفة) رغم أن العربية كانت تعيش في أزهى عصورها. و استقبل العرب مفردات جديدة أخرى (كالاسطرلاب و الأستاذ و المهندس) . بل أن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم ) استخدم كلمة ( الخندق) الفارسية و التي اشار بها سلمان الفارسي فلم يحاول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ترجمة الكلمة أو الخوض في اختيار المفردة المقابلة للخندق . أعود و أكرر أنه ليس موضوعنا هنا أزمة المصطلح و لكني ساعرض لكم بعض من المصطلحات التي حاول النقاد (كلٌ حسب تأويله و تلقيه الخاص) إدخال و نحت المصطلح المناسب. فسعيد يقطين في كتابه ( القراءة والتجربة )[3] يترجم المصطلح بـ ( المناصصات ) ثم قام في كتابه (انفتاح النص الروائي) بعد عملية الإدغام الصرفية باستخدام مصطلح (المناص )[4] ، أما محمد بنيس فقد ترجم المصطلح بـ (النص الموازي)[5] و قد اتفق معه الناقد عبد الفتاح الحجمري[6]. وقد ترجم فــريد الزاهي المصطلـح ( بالمحيط الخارجي أو محيط النص الخارجي )[7] ويستعمل عبد الرحيم العلام مصطلح (الموازيات) [8]. بالإضافة إلى العديد من المصطلحات كـ (الموازية النصية و النصوصية المرادفة و النصية الموازية و الترافق و وراء النصوصية و).[9]

أما المردود السيئ في ( أزمة المصطلح ) فهي تظهر جليا عند النقاد الشباب الذين يلاحظ خلطهم في المفاهيم نتيجة التلقي ( الملخبط ) للمصطلح .

عن النص الموازي

ويمكن تقسيم النص الموازي إلى قسمين:

1. النـص المــوازي الداخــلي (Péritexte):

كل نص مواز يحيط بالنص أو المتن و قد سمي (النص المحيط) أو النص المصاحب أو النص المجاور.

والنص الموازي الداخلي عبارة عن ملحقات نصية، و عتبات تتصل بالنص مباشرة. و يشمل كل ما ورد محيطا بالكتاب من الغلاف، والمؤلف، والعنوان، والإهداء، والمقتبسات، والمقدمات، والهوامش، وغير ذلك مما حلله جنيت في الأحد عشر فصلا الأولى من كتابه (عتبات seuils).

2.النص المــوازي الخارجي (Epitexte):

النص الموازي الخارجي أو الرديف أو النص العمومي المصاحب. "وهو كل نص من غير النوع الأول مما يكون بينه وبين الكتاب بعد فضائي وفي أحيان كثيرة زماني أيضا، ويحمل صبغة إعلامية مثل الاستجوابات والمذكرات، والشهادات، والإعلانات، دراسات عن النص ويشمل الفصلين الأخيرين من كتاب جنيت السابق ذكره [10].


الترجمة و العنوان

بالطبع يصعب إسقاط الترجمة على كل العتبات لأن ذكرها يحتاج لأكثر من هذا المقال و لكني سأركز هنا عتبة العنوان .

يعتبر العنوان أول العتبات و اهمها, حيث هو أول ما تقع عليه عين القارئ فإن شده العنوان أخذ الكتاب ليتصفحه و إن لم يشد إنتباهه فإنه لن يمسك الكتاب أصلاً. و هكذا فإنه يقوم بعمل ( دعائي ) للكتاب. و كما قال محمد مفتاح عن العنوان " العنوان معرفة لضبط انسجام النص وفهم ما غمض منه، إذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه، وهو الذي يحدد هوية( الرواية) فهو إن صحت المشابهة- بمثابة الرأس للجسد، والأساس الذي تبنى عليه،غير أنه إما أن يكون طويلا فيساعد على توقع المضمون الذي يتلوه، وإما أن يكون قصيرا. وحينئذ فإنه لابد من قرائن فوق لغوية توحي بما يتبعه"[11] لكن لم يهتم النقاد العرب بالعنوان كعلم رغم الاهتمام المبكر للنقاد الغربيين به فقد أسسوا علم العنوانيات ( la titrologie ) و يعد (لوي هويك Leo. H.Hoek) أحد أكبر المؤسسين المعاصرين للعنوانيات[12] في كتابة ( سمة العنوان la marque du titre ) حيث عرف العنوان بأنه (مجموعة من الدلائل اللسانية .. يمكنها أن تثبت في بداية النص من اجل تعيينه و الإشارة إلى مضمونه الإجمالي و من أجل جذب الجمهور المستهدف)[13] و على الرغم من أن العنوان يدل بمظهرة اللغوي على وضعية لغوية شديدة الإفتقار فهو لا يتجاوز حدود الجملة إلا نادراً و غالباً ما يكون كلمة أو شبة جملة, إلا أنه ينجح في إقامة إتصال نوعي بين المرسل ( الكاتب ) و المتلقي[14]. و تعد وظائف العنوان من المباحث المعقدة و قد أختلف الكثير من النقاد في بعض تفاصيل هذه الوظائف و لكني هنا أورد رأي جيرار جينيت حيث يرى أن للعنوان أربعة وظائف هي: الإغراء، الإيحاء، الوصف، التعيين.[15]

يخضع العنوان في الترجمة للتصرف من قبل المترجم بما يلائم المتلقي في اللغة الهدف أو بما يجعل من التسمية أكثر جمالاً و أدبية . لكن تكثر هذه الحالة في الدراسات الإجتماعية كما هو الحال في كتاب (



كنت طبيبة في اليمن) للكاتبة الفرنسية كلودي فايان و الذي كان عنوانه الأصلي ( Une française médecin au Yémen)الذي ترجمته الحرفية ( طبيبة فرنسية في اليمن ) لكن الأستاذ محسن العيني حين ترجمه إلى العربية قد اختار له عنوانا أكثر أدبية ليجذب المتلقي أفضل مما كان عليه لو انه ترجم حرفيا و قد ترجم نفس الكتاب إلى الألمانية بعنوان (Hakima. Eineinhalb Jahre Ärztin im Jemen) و الذي ترجمته الحرفية هي ( حكيمة, لسنة و نصف في اليمن) و قد وردت مفردة حكيمة

و التي كانت تعني ( طبيبة ) في اليمن بكثرة في الكتاب الفرنسي بنفس



الإسم ( hakima) و لذلك كان العنوان جاذبا للقارئ الألماني ليثير فيه الفضول لمعرفة معنى الحكيمة و من هي هذه الحكيمة . كما ترجم نفس الكتاب إلى اللغة البولندية باسم (Al Hakima. Poznałam tajemnice haremu) و الذي ترجمته الحرفية ( الحكيمة , عرفت أسرار الحريم ) و قد وردت حريم باللفظ العربي ( haremu) أيضا لشد القارئ البولندي إلى عالم مختلف عن العوالم الأوربية لأن القارئ الأوربي لم يسمع بكلمة حريم إلى في قصص ألف ليلة و ليلة و لذلك كان لهذا العنوان عامل شد لإنتباه القارئ لمعرفة قصص الحريم في الشرق. هناك أيضا كتاب أخر عن اليمن كتب باللغة الفرنسية و اسمه ( voyage de l'arabie heureuse ) و رغم أن ترجمة العنوان الدقيق هو ( رحلة العربية السعيدة ) إلا أن المترجم – منير عربش – قد ترجمه بعنوان ( أول رحلة فرنسية إلى العربية السعيدة ) وقد غير المترجم العنوان بما يشد القارئ العربي. إذ أن عنوان ( رحلة العربية السعيدة ) يحيل إلى رحلة مبهمة وغير معرفة و ربما تكون رحلة عادية لكن العنوان الذي اقترحه المترجم يحدد للقارئ بأن الكتاب يتحدث عن أول رحلة يقوم بها فرنسيون إلى اليمن و هذا العنوان يشد القارئ أكثر لأنه يحدد ما هي الرحلة و من قام بها و ما ترتيبها بين الرحلات إذ أنها الأولى. و بهذا يعرف الباحث أن هذا الكتاب مميز أكثر من غيره.

و في حالة الرواية فإن الإختلاف في ترجمة العنوان له أسبابه الأخرى و إن كان أهمها هو مدى تأويل المترجم للعنوان.


ففي رواية الكاتب الفرنسي أندريه مارلو ( La Condition Humaine) تُرجم عنوانها إلى ( الوضع البشري) و ترجمت الرواية مرة أخرى تحت عنوان (قدر الإنسان) و أعتقد شخصياً أن الترجمة الدقيقة لها هي ( الجنس البشري ) لأن أحداث الرواية لا تحكي عن قدر الإنسان أو وضعه كما تحكي عن الإنسان كجنس و نوع. و مسرحية (Kabale und Liebe) للكاتب الألماني فريدريش شيلر قد تُرجمت إلى العربية للمرة الأولى عام 1900 باسم ( حبّ ودسيسة )و ترجمت مرّة ثانية سنة 1907 من قبل طانيوس عبده بعنوان (غرام واحتيال)، ومرّة ثالثة سنة 1936 من قبل حسن صادق بعنوان ( الحبّ والدسيسة ) ثمّ ترجمها الدكتور عبد الرحمن بدوي سنة 1994 بعنوان آخر هو ( المؤامرة والحبّ ) و التغير في كل هذه العناوين يصور لنا مدى تخبط المترجمين في تأويل ما هي المفردة الصحيحة التي يستخدمها هنا أو هناك.

و في حوار مع صديقي محمد الكميم عن ترجمة العنوان نبهني إلى أن عنوان رواية ( البؤساء ) للفرنسي فيكتور هوجو الذي كان أول من ترجمها ( حافظ إبراهيم ) به خطأ لغوي, حيث أن البؤساء هي جمع بَئِسٌ و يقال رجلٌ بَئِسٌ أي ذو البأس و هو الرجل الشجاع . أما المفردة الصحيحة فهي ( البائسون ) و مفردها بائس و هو الفقير أو المُبتلى . و قد استمر هذا الخطأ عند كل المترجمين اللاحقين الذين ترجموا هذه الرواية . و ما دمنا مع فيكتور هوجو فلنا وقفة اخرى مع إحدى اجمل رواياته و هي ( أحدب نوتر دام ) و الذي عنوانها الأصلي هو ( Notre Dame de Paris ) و الذي ترجمته الحرفية هي ( نوتر دام باريس ) أي ( كنيسة نوتر الباريسية ) و هي كنيسة شهيرة جدا في مدينة باريس. لكن المترجم أضاف مفردة ( أحدب ) إلى العنوان إعتقادا منه أن صاحب البطولة في هذه الرواية هو الأحدب (كازيمودو) و ليست الكنيسة و هو بهذا قد حول العنوان الذي كان يصر فيه فيكتور هوجو على أن البطولة هي للمكان ( كنيسة نوتر دام ) و ليست لشخصية من الشخصيات, فالمكان هنا هو المركز في الحركة القصصية و قد دارت كل حكايات الشخصيات فيه (الأحدب كازيمودو, ايزميرالدا, جرنجوار وغيرهم ) كأن المكان قد حدد مصائر من يسكنه فكان المكان - و هي الكنيسة هنا - هي من تقوم بدور البطولة الفعلية في القصة، وتفرض نفسها على عنوان الرواية . لكن المترجم بتغييره العنوان من الكنيسة إلى الأحدب قد حول بصر القارئ العربي من المكان بصفته البطل في الرواية إلى إحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية. كما أن تأثير المتلقي على المترجم في ترجمة العنوان يظهر جليا في بعض العناوين التي ترجمت في عصر محمد علي في مصر في القرن التاسع عشر . إذ أن العناوين كانت تتبع تحت ما بات يعرف ( بالعنوان التراثي ) و هي تلك العناوين التي بها سجع و مطابقة. وقد ترجم رفاعة الطهطاوي (1801- 1873م) رواية القس الفرنسى فنلون (Les Aventures de Télémaque ) حيث أن عنوانها الأصلي هو ( مغامرات تيليماك ) لكن الطهطاوي ترجمها بعنوان ( مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك )


ختاماً، لا يهتم معظم المترجمين بالعتبات فيهملون في نقلها على الوجه الصحيح, فالغلاف الذي يختاره المؤلف أو الناشر يتغير كليا إلا فيما ندر و الإهداء الذي يكتبه المؤلف لا يهتم به بعض المترجمين بل إن هنالك من يقوم هو بإهداء الكتاب المترجم لمن يريد و كأنه حين ترجم الكتاب قد امتلك النص الأصلي. و نفس الشيء مع كلمة الناشر أما فيما يخص النص الموازي الخارجي و هي ما نشر خارج الكتاب من دراسات نقدية و حوارات مع المؤلف فإن الباحث في اللغة المترجم إليها لا يستطيع الحصول عليها إلا إن كان يتقن اللغة المترجم منها. لذلك فيضل الناقد الذي يريد دراسة النص الموازي ( الداخلي و الخارجي ) يضل عمله ناقصا لان المادة المدروسة ليست مترجمة كلياً.


بشير زندال


Zendal11@yahoo.com



المراجع:

[1] - جميل حمداوي : لماذا النص الموازي . مجلة الكرمل . عدد الصيف والخريف،88/89، صص:218

[2] - Gérard Genette. Seuils. Ed. Du seuil. Paris 1987. 16

[3] - د .سعيد يقطين: القراءة والتجربة، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1/1985، ص 208

[4] - د. سعيد يقطين: انفتاح النص الروائي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1 /1989، ص 102 (الهامش).

[5] - د. محمد بنيس: الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، 1، التقليدية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1/1989، ص 77.

[6] - د. عبد الفتاح الحجمري: عتبات النص: البنية والدلالة،شركة الرابطة، الدار البيضاء، ط1/1996، ص 9.

[7] - فريد الزاهي: الحكاية والمتخيل، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1/1991، ص 85.

[8] - عبد الرحيم العلام، (الخطاب المقدماتي في الرواية المغربية) ،علامات مغربية- العدد8، 1997، ص 17 (انظر الهامش ص 23).

[9] - بحث للدكتور جميل حمداوي , مرجع سابق .

[10] - بحث للدكتور جميل حمداوي , مرجع سابق.

[11] - محمد مفتاح: دينامية النص،المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1 ، 1987، ص:60.

[12] - عبد الحق بلعابد. عتبات ( جيرار جينيت من النص إلى المناص ) منشورات الإختلاف ,2008 ص 65

[13] - Leo. H.Hoek .la marque du titre, dispositifs sémiotiques d’une Pratique textuelle, ed. La Haye mouton, أنظر Paris ; 1981.

[14] - محمد فكري الجزار. العنوان و سيميوطيقا الإتصال الأدبي, الهئية المصرية للكتاب, 1998 صـ 21

[15] - Gérard Genette. Seuils. Ed. Du seuil. Paris 1987. 80


٣٬٧٢٥ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page