- بشير زندال
خيانة الترجمة والنسخ في ألف ليلة و ليلة

في معارض الكتاب التي نزورها نجد الكثير من الكتب التي نبحث عنها وقد يكون بحثنا عن كتاب من كتب التراث, وحين نجده فإننا نتعامل مع كتاب أو مجلد مطبوع طباعة حديثة. و قد لا نفكر في المراحل – على مر الزمن – التي مر بها الكتاب. لأن الكتاب إن كان لمؤلف عربي فقد مر بمرحلة النسخ عن الأصل الذي ألفه المؤلف والنسخ أتى بعده نسخ, ثم عملية نسخ وأخرى وأخرى إلى أن وصل إلى القرن التاسع عشر أو العشرين ثم طبع طباعة حديثة بالشكل الذي وصل إلينا. أما إن كان الكتاب الذي بين يدينا كتابا مترجما إلى العربية من التراث اليوناني أو الهندي أو الفارسي فإن مراحله قد تكون أكثر.
ولنا أن نتوقف عند كتاب مثل "ألف ليلة وليلة" هذا العمل الإنساني الضخم, لعل من أصعب الأمور وأكثرها إشكاليةً بالنسبة لهذا الكتاب، هو تحديد أصوله لما يشوبها من تشابك وضبابية حول الإجابة على كثير من الأسئلة المتعلقة به والتي منها: أين كتب هذا الكتاب؟ ومتى كتب؟ ومن كتبه؟ وبالتأكيد فإن هذا العمل الضخم لم يولد فجأة وإنما كان نتيجة لتراكم حضاري وثقافي لمجموعة من الأمم صيغت أخيرا في كل هذه الحكايات والشخصيات التي يحس القارئ بأنها تمثل كل الحضارات المختلفة. فنجد فيها الهند والصين وبلاد فارس ونجد شيئاً مما في الأوديسا والإلياذة، كما نجد هارون الرشيد والملك عمر النعمان وبغداد ودمشق.
وفي الواقع فقد تجمعت لديّ العديد من الإصدارات والطبعات المختلفة لكتاب ألف ليلة وليلة-وهي بالطبع نسخ إلكترونية مصورة منه- أقدمها طبعة برسلاو عام 1144هجرية الموافق 1731م, غير أني لاحظت أن كل طبعة تختلف عن الأخرى في حدة الألفاظ وجرأة بعضها, وقد لفتت انتباهي جملة قرأتها في مقدمة إحدى طبعات ألف ليلة وليلة وقد كتب على غلافها (ألف ليلة وليلة ...وقد هذبه وصححه أحد الآباء اليسوعيين.) وكانت تخص المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين في بيروت. 1888 . و قد كتب في الصفحة الثامنة هذه الجملة:
(هذا ولم نأل جهدا في مقابلة هذا الكتاب على ما عندنا من نسخ مطبوعة ومخطوطة ولكنا قد جردناه من كل ما يقدح بالآداب ويضر بالأخلاق تعميما لفكاهته وتيسيرا لاقتنائه وقراءته في بيوت المتهذبين. وما أحراه أن يُشبه بنهر قد تفرغ إلى ألف قناة وقناة ولما كانت بعض تلك الأقنية قد تحولت بواليع وقاذورات وجب سدها حتى لا تبقى إلا المياه الصافية يلتذ بها الشاربون.)
لاحظوا جملة جردناه من كل ما يقدح و يضر بالأخلاق, هكذا كان التعامل مع هذه الطبعة, فالاعتقاد أن المتلقي في (بيوت المهذبين) بحاجة إلى كتاب خالٍ من الألفاظ البذيئة والمخالفة للتربية الدينية. لكن المشرفين على هذه الطبعة قد نسوا أو تناسوا أن (بيوت المهذبين) وإن لم يقرءوا الألفاظ البذيئة فإنهم سيقرأون كل (الأعمال البذيئة) الواردة في هذا العمل الخالد المليء بالجواري والنساء والذبح والقتل والخيانة الزوجية وما إليها من أفعال قد لا تتناسب مع (بيوت المهذبين). ولاحظوا قسوة الكاتب حين قال (ولما كانت بعض تلك الأقنية قد تحولت بواليع وقاذورات وجب سدها.) فشبه النسخة الأصلية بأنها مليئة بالبواليع التي يجب سدها. وهكذا أعطى لنفسه السلطة المطلقة لحذف (ما يقدح بالآداب).
وليست هذه هي عملية التغيير الوحيدة التي خضع لها هذا الكتاب، فقد تعرض بفعل الترجمة والنسخ لعمليات مختلفة من التغيير والحذف والتعديل والخيانة، وهذا سر تعدد نسخه وصوره بتعدد المجتمعات والثقافات، وهذا أيضاً سر تعدد الثقافات والتيارات وتداخلها داخل مضمون الكتاب نفسه، ولعل في ما قاله ابن النديم خير شاهد على قِدَم الخيانة، أو خيانات النسخ والترجمة التي تعرض لها هذا الكتاب، يقول ابن النديم في كتابه الفهرست عند حديثه عن كتاب ألف ليلة وليلة:(وقد نقلته العرب إلى اللغة العربية, وتناوله الفصحاء والبلغاء فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه). فنأخذ الجزء الأخير من هذه الجملة (فهذبوه ونمقوه وصنفوا في معناه ما يشبهه). إنها تخبرنا بأن العرب حين تناولوا هذا العمل لم يقوموا فقط بترجمته, بل أخذوا النسخة الأصلية وصنفوا في معناها ما يشبهها أو صاغوا قصصاً على نفس منوال قصص ألف ليلة وليلة و لهذا السبب فإننا نجد ضمن الحكايات حكايات هارون الرشيد والنعمان والحجاج بن يوسف الثقفي. بالتأكيد مستحيل أن تكون هذه الأسماء قد وردت في النص الأصلي المترجم من الفارسية لكنها أضيفت على مراحل مختلفة من تاريخ الكتابة العربية أو(من تاريخ النسخ العربي) كي نكون أكثر دقة, فالكتاب تمت ترجمته ترجمةً أمينةً، فنقل كاملاً كما هو في اللغة المنقول منها، لكن مرحلة النسخ هي التي أضافت الكثير إليه وتكثر الإضافات بكثرة عمليات النسخ. فمن النساخ من أضاف هذه الحكاية ومنهم من أضاف تلك ومنهم من زاد هذه الأبيات الشعرية ومنهم حذف هذه الحكاية, حتى أصبحت ألف ليلة وليلة عربية أكثر منها فارسية.
هذا ما حدث في ترجمة ونسخ ألف ليلة وليلة، وأظن أن هذا العبث الذي عانى منه هذا العمل الإنساني كان الأشد، لأن الحكايات قابلة للإضافة بعكس كتب الفلسفة التي ترجمت عن اليونانية حيث أن هذه الأعمال يصعب الإضافة والحذف فيها لكن تظل إمكانية الحذف والإضافة في الترجمة والنسخ واردة في كل ما ترجم وكتب في التراث العربي وإن كان على نسب بسيطة جدا متفاوتة، كتغيير بعض الكلمات أو تغيير بعض الصفحات. و قد ذكرت مريم سلامة كار في كتابها (الترجمة في العصر العباسي) أن الجاحظ كان يغير بعض الترجمات عن اليونانية بما يتلاءم مع المتلقي العربي في ذلك العصر. أخيراً, هل كل ما وصل إلينا من كتب التراث لم يتعرض للجراح على يد النساخ؟؟