top of page
  • رناد الجديد

الترجمة حياة ..كيف؟




أبدع البُلغاء في وصف الترجمة لما لها من مكانةٍ عظيمةٍ نافست الأدبَ رفعةً وفنًّا، فهناك من يراها جسرًا واصلًا بين اللغات، أو قبسًا من نور، أو شعلة ضياء، أو منارة يستدل بها الضِّيـاع. تنوعت الأوصاف وكثُرت، إلا أني رأيتها أوصافًا مجحفة لا تفي بحق الترجمة. فجماداتٌ كالجسر والقبس والشعلة والمنارة، لا تليق بوصف نبضٍ معطاءٍ كالترجمة. لذا قلت: بل الترجمةُ حياة.

نعم حياة، حياةٌ بمعنييها الحرفي والمعنوي. فكم أحيت الترجمة من حضارات، وكم أحيت من علوم، وكم أحيت من أحياء، وكم أحيت من نصوص!

أحيت حضاراتٍ اندثرت، فما إن تُرجم إرثها اللغوي والأدبي حتى عادت إلى الحياة، وظلت مستمرة يتناقلُ إرثَها الأجيالُ ويتدارسها العلماء. أحيت حضارات كانت تتهاوى إلى الموت، فحين كانت أوروبا غارقة في عصورها المظلمة، لم ينتشلها من هذه الظلمة ولم يفتح لها أبواب الحياة لعصور النهضة سوى ترجمة الكتب والأفكار!

أحيت علومًا، فلولا الترجمة، لماتت العلوم في أرضها، ولبدأ كلُّ عالمٍ من نقطة الصفر. ولكنها منحت الحياة للعلوم، وورَّثتها لمن لَحِق من علماء من مختلف أقطاب الأرض، ليتموا بناء ما بدأه سابقوهم. فكتبت بذلك الحياة للنظريات القديمة، ومهدت الطريق لإحياء علوم جديدة.

كتبت الحياة للأحياء، فكم من أشخاص حول هذا العالم يكاد يبتلعهم الجوع والفقر والحرب والجهل في كل يوم! ولا أحد يدري بقصتهم ولا بمعاناتهم، فقد تُحكى ولكن لا نفهمها لأن حاجز اللغة يقف بيننا. ثم تأتي الترجمة، حاملةً معها الحياة للأحياء، وناقلة معاناة الشعوب إلينا، كاتبةً بذلك عمرًا جديدًا لحكايا حُكيت وصرخاتٍ أطلقت لم تكن لتُفهَم وتُسمَع لولا الترجمة.

كتبت الحياة لنصوصٍ عظيمةٍ لم تكن لتصل إلينا لولا نفثة روح منحتها لها الترجمة، فجعلتها نصوصًا حيَّة ترزق في كل مكتبات الأرض. وبإحياء النصوص، بقي كُتِّابُها أحياءً بما تركوه، وأبطال القصص أحياءً بما فعلوه. حتى الشعر، سيمفونية الأدب الأكثر تعقيدًا، حين تُرجم ظلَّ حيًّا، كسونيتة شكسبير الثامنة عشرة، والتي ببقائها حية، بقيت محبوبة شكسبير على قيد الحياة، حيث يقول شيكسبير بلسان ترجمة صفاء خلوصي:

"ما دامت الأنفاسُ تصعدُ والعيون تُحدّقُ .. سيظلُّ شعري خالدًا وعليك عُمراً يُغدقُ".

وبلسان ترجمة محمد عناني:

"فما دام فى الأرضَ ناسٌ تعيش .. ومادامَ فيها عيونٌ ترى

فسوف يرددُ شعري الزَّمان .. وفيهِ تعيشين بينَ الورى"

للحق، فإني بمجرد كتابتي عن الترجمة، شعرتُ بقلمي ينبض، فكيف إن ترجمتُ؟

أجل، لنا في الترجمة حياة!



٣٠٧ مشاهدات٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page