- رناد الجديد
رحلة أديب في بحار الترجمة

الترجمة بحرٌ واسعٌ لطالما اجتذب بحَّارة اللُّغات للغوص في عوالمها. وفي سياق الترجمة من الإنجليزية وإليها، فإن أكثر روادها متخصصون في اللُّغة الإنجليزية وآدابها، ولكن، ماذا إن كان البحَّار من الشاطئ المقابل؟ أي متخصصًّا في اللغة العربية وآدابها لا الإنجليزية؟
لنا في الدكتور محمود الربيعي خير مثال، فقد أبحر في غمار الترجمة مترجمًا في رحلته ثلاثة كتبٍ تعد من أهم الكتب في مجال الأدب والنقد، متسلّحًا بعربيَّتِه قبل إنجليزيَّته، وأشارككم هنا قراءتي لتجربته في الترجمة وآرائه فيها، بعينِ مُترجم وفي ضوء نظريات الترجمة ودراساتها.
في مُستهلَّ رحلته للخوض في غمار الترجمة، كان يسيطر عليه الرعب من فكرة "خيانة النص" ووصف المترجم بالخائن. ولكن غلب على ذلك الشعور استشعارُه لعظيمِ عطاءِ عملية الترجمة، إذ تنقل إلينا ماتحويه اللُّغات الأخرى من علوم وآداب .. وذلك بتعريفٍ أصدق، نبلٌ لا خيانة.
ويذكر د. الربيعي أنه لم "يحفل كثيرًا بدراسة نظريات الترجمة" بل ركَّز على تحقيق هدفٍ عَزَمَ عليهِ أمرَه ألا وهو أن يقدم للقارئ العربي ترجمة تجمع بين الأمانة في نقل فكرة النص مع سلامة اللُّغة وحسن الصياغة والأسلوب، فوضعَ القارئ في المقام الأول، وسلك بهذا النَّهج طريق الإبداع في النَّقل والفنَّ في إيجاد مقابل. وفي حين يقر الربيعي أنه لم يدرس نظريات الترجمة، رأيتُ أنه فعلياً يتوصَّلُ إليها بنفسِه! وما قادَهُ إليها استشعارُه العظيم للُّغة ولجوهر الترجمة.
وكانت الصَّدمة للربيعي حين همَّ بالترجمة، فقد وجد أنَّ قدرته على استخدام لغته الفصيحة لم تعد كما اعتاد، ووجد نفسه أسيرَ تأثير النص الأصلي واللغة المَصْدَر عليه في مواضع عديدة. ورغم أنه مختصٌّ باللغة العربية ولم يتعلَّم الإنجليزية إلا في كبره، إلا أن الإنجليزية لا تبرح تفرضُ نفسَها وأسلوبها وصياغتها عليه وهو يُترجم، وأجزم وأنا أقرأ شعورَه، أنه لربما أدرك -في تلك اللحظة تحديدًا- التحدي العظيم الذي يقع على عاتق المترجم. وخلص الربيعي حينها إلى ضرورة "عقد مصالحة" بين لغته العربية واللغة الإنجليزية للوصول إلى الترجمة المُثلى.
وطوال مشاركتي الربيعي رحلتَه في ترجمته للكتب الثَّلاث، رأيتُه يتوصلُ إلى المزيد من النظريات بنفسه ويطبقها في ترجمته. فمثلًا حين كان يُخيَّر بين الإخلاص التَّام لأسلوب ولغة النص الأصلي أو الإخلاص لقارئه وثقافة وتقاليد مجتمعه، فقد كان يختار قارئه، ولكن بالطبع دون الإخلال بفكرة النص.
في النهاية يتوصل د. محمود إلى أنَّ تجربة الترجمة "تجربة خصبة"، وأعجبتُ أيَّما إعجابٍ باختياره تشبيهَها بالولادة، فهي عمليةٌ شاقَّة ومؤلمة، ولكن في النهاية فرحةُ المترجم بالنص الذي ُولِد إلى لغته وقارئه، كفرحةِ الأمِّ برؤية فلذةِ كبدها بعد مَخاضٍ طويل. ويذكر أيضًا ضرورة تعلم لغات اجنبية لدارسي الأدب على وجه الخصوص، إذ أن الانجليزية في المقام الأول والترجمة في المقام الثاني قد فتحتا له آفاقًا كثيرة ووسعتا مداركه الفكرية.
قراءتي لتجربة الربيعي في الترجمة خلقت في نفسي سعادةً وفخرًا عظيميْن، فطوال تحدُّثه عن الترجمة والمترجمين شعرتُ به يتحدثُ بلسانِ إجلالٍ ﻷهل الترجمة ومعشر المترجمين. ويؤكد الربيعي على أن للترجمة لذة ومُتعة يستشعرُهما أهلها، إذ يصف أنَّ "رحلته المستمرة المتطاولة مع الترجمة تمثل له متعة كبيرة من متع حياته".
المراجع:
مقال "تجربة في الترجمة" للدكتور محمود الربيعي - ألقاه في محاضرة في مؤتمر مجمع القاهرة للغة العربية في دورته الثمانين/ يوم الثلاثاء 25 مارس 2014