كيف يفيد المترجمُ من القرآن الكريم وأساليبه؟ أمثلة تطبيقية

مما لا شك فيه أن فصاحة القرآن ليس كمثلها فصاحة. وعلماء اللغة، إنْ هم أرادوا دليلًا على فصاحةِ كلمةٍ أو أسلوبٍ، فإنهم يرجعون إلى القرآن في ذلك. والقرآن الكريم، وإن تحدى العربَ فأعجزهم وحاولوا مجاراته فأعياهم، فإنه ليس بعصي على قارئه؛ فأساليبه وعباراته، في معظم الأحوال، صالحة لكل زمان، يفهمها الصغير والكبير والمتعلم والجاهل. ولذا فحري بالمترجم أن ينهل من هذا المعين، فيصقل لغته وأسلوبه. وغايتي من هذه المقالة أن أُورد ما يمكن أن يفيد منه المترجم، وما أذكره لا يعدو أن يكون أمثلةً – لا استيفاءً - يمكن أن ينطلق منها المترجم. ودونكم بعض هذه العبارات والأساليب:
التبعيض: حين تترجم كلمة (some) أو ما كان في معناها، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنك كلمة (بعض). فعادة ما نترجم هذه الجملة:
(Some people like reading and some do not)
إلى: (بعض الناس يحبون القراءة وبعضهم لا يحبها).
ولو تأملت في القرآن لوجدت أن الأسلوب القرآني يختلف كل الاختلاف. فلن تجد في القرآن (بعض الناس، بعض الشياطين، بعض الأعراب) في هذا الأسلوب خاصة، بل ستجد أن القرآن يستعمل كلمة (من) التي يسميها علماء اللغة (التبعيضية) لهذا الغرض، وهي تفيد المعنى ذاته. يقول الله تعالى (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا) ويقول (ومن الشياطين من يغوصون له ...)، (ومن الجن من يعمل بين يديه...). فحين نتبع القرآن في هذا الأسلوب فسنخرج بترجمة فصحى مستقاةٍ من هذا الكتاب العظيم. فنقول في ترجمة الجملة المذكورة آنفًا: (من الناس من يحب القراءة ومنهم من لا يحبها).
السببية:
التعبير عن السبب يمكن أن يكون بتعابير مختلفة. انظر إلى هذه الجملة: (This library is the best because of the many books it has) يمكن أن تترجم إلى: (هذه أفضل مكتبة بسبب الكتب الكثيرة التي حوتها). وكلمة (بسبب) أول كلمة تلوح أمام المترجم. وهي، وإن كانت فصيحةً صحيحةً، فإن فيها شيئًا من الثّقَل على اللسان. وقد تناسب سياقًا ولا تناسب آخر. لكن تأملْ التعبير القرآني حين يذكر السبب: قال تعالى: (ذلك بأنهم قالوا ...) وقوله تعالى (إذ كانوا يكفرون بآيات الله ...) وقوله تعالى (بما كانوا يفسقون). وكل هذه الاستعمالات تفيد معنى السبب (ذلك ، إذْ، بــ). وعلى هذا يمكن أن نترجم ترجمةً أقرب ما تكون إلى الاستعمال القرآني، فنقول: (هذه أفضل مكتبة بما حوته من كتب كثيرة) أو (هذه أفضل مكتبة، إذ أنها حوت كتبًا كثيرة) أو (هذه أفضل مكتبة، ذلك أنها حوت كتبًا كثيرة).
استعمال (المفعول لأجله) للتعبير عن السبب: (He fled the country because he was afraid of his father) تترجم إلى (هرب من البلدة بسبب خوفه من أبيه). وكان بالإمكان استعمال المفعول لأجله، مثل (خوفًا، ابتغاء، خشية، إجلالا) وكلها تحمل معنى (بسبب كذا). وعلى هذا يمكن أن تكون الترجمة: (هرب من البلدة خوفًا من أبيه). وفي القرآن الكريم: (ابتغاء مرضات الله)، (خشية إملاق).
تعبيرات الأفعال (phrasal verbs): وسأذكر منها تعبيرًا واحدًا يرِدُ في القرآن كثيرًا. تأمل هذه الجمل، وحاول ترجمتها قبل أن تطلع على ترجماتها في الأسفل: (he brought him a book) (He came to him) (He committed a crime) (He passed by the valley) لو تأملنا هذه العبارات لتبادر إلى أذهاننا (أحضر، جاء، ارتكب، مرّ على) على الترتيب. إلا أن في القرآن فعلا واحدًا، يؤدي هذه المعانيَ كلّها، وهذا الفعل هو (أتى). وعلى هذا ستكون الترجمة، لو استعملنا هذا الفعل، كما يلي: (أتاه بالكتاب) و(أتى إليه) و(أتى جرمًا) و (أتى على الوادي). وشاهد ذلك من القرآن: قوله تعالى (ائتوني بأخ لكم من أبيكم) بدلًا من (أحضروا ...)، و(إلا آتي الرحمن عبدًا)، و(وتأتون في ناديكم المنكر) بدلًا من (ترتكبون في ناديكم ...)، و(أتوا على وادي النمل). وفي غير القرآن تستعمل العرب كلمة (أتى على) بمعنى (استنفد)، فجملة: (He ate all the food) قد تكون: (أتى على الطعام كله).
كلمات متنوعة (على أنه يجب مراعاة أسلوب النص عمومًا):
كلمة (better) يمكن أن تترجم إلى (خير) بدلًا من (أفضل): (It is better not to do that) (خيرٌ لك ألا تفعل ذلك) بدلًا من ( من الأفضل ألا تفعل ذلك). ومنه قوله تعالى: (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون). وذلك أن (خير) صيغة تفضيل حُذفت ألفها، وأصلها (أخير) بمعنى أفضل. ومثلها كلمة (شر) التي أصلها (أشرّ من) وقد حُذفت ألفها كذلك.
كلمة (may) يمكن أن تكون (لعل، عسى): (so that you may find him) (لعلك تجده، عسى أن تجده) بدلا من (ربما تجده).
عبارة (in front of) يمكن أن تكون (بين يديه): (He looked at the book in front of him) (نظر إلى الكتاب بين يديه) بدلًا من (نظر إلى الكتاب الذي أمامه). أو الجملة (He stood before the judge) تترجم إلى (مثل بين يدي القاضي).
كلمة (how) يمكن أن تكون (أنّى): (!?How will Allah ever bring it to life) (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) بدلا من (كيف سيحيي الله ...)
عبارة (on that day) أو (at that time) أو (then): (On that day, he had no money) (ولم يكن له يومئذٍ مال). بدلًا (في ذلك الوقت / اليوم) (At that time, he was responsible for that department) (وكان حينئذٍ - أو: وقتئذٍ - مسؤولا عن ذلك القسم). وهنا يراعى ترتيب مثل هذه العبارات، لتكون أكثر سلاسة.
الفعل (كان): وهو يستعمل في القرآن لأكثر من معنى:
يأتي للتعبير عن حدث في الماضي، وهذا الاستخدام الشائع له. فيمكن أن نترجم (Their father was righteous) إلى (وكان أبوهما صالحًا). وهو يقابل (was , were) في الغالب.
يأتي بمعنى (used to): ولم يستعملِ القرآنُ (اعتاد أن) أبدًا، بل استخدم (كان): فعلى هذا يمكن أن نترجم: (...They used to say) إلى (وكانوا يقولون ...) أي: "اعتادوا أن يقولوا كذا"، أو"كان من عادتهم أن يقولوا كذا". ومنه قوله تعالى:(وكانوا ينحتون من الجبال)، وكذلك (وكانوا يصرون على الحنث العظيم).
يأتي بمعنى أصبح أو صار (become): وشاهد ذلك قوله تعالى: (وفتحت السماء فكانت أبوابًا) أي: صارت أبوابًا. وإذا ما أردنا تطبيق هذا المعنى في الجملة: (So, it became my favorite book) فيمكن أن تكون: (فكان كتابي المفضل). وكذلك جملة: (He had spent most of his life studying and he became a well-known figure) يمكن ترجمتها إلى: (قضى معظم حياته يدرس فكان علمًا من الأعلام).
حذف كلمة (when) أو (while) إذا جاءت بمعنى (بينما، حين)، وإحلال حرف العطف محلها: (He said to his son when he was advising him) (قال لابنه وهو يعظه) بدلًا من (قال لابنه حين كان يعظه).
وزن الفعل (استفعل)، وله معانٍ شتى، منها الطلب. فجملة (He asked them for food) تترجم عادة إلى (طلب منهم طعامًا) في حين أن القرآن يستخدم كلمة واحدة تفيد معنى الطلب، مثل قوله تعالى (استطعما أهلها). فتكون الترجمة بالأسلوب القرآني (استطعمهم). وعلى هذا يمكن أن نترجم (resort to him for help) إلى (استعان به)، و(ask him for explanation) إلى (استوضحه)، وعلى هذا فقِسْ.
وحتى يتسنى لك اتباع القرآن في ذلك، عليك بما هو آت:
أولًا: أكثرْ من قراءة القرآن وركّز على تعابيره وأساليبه مع تدوينها.
ثانيًا: اتخذْ أكثر من نسخة لترجمة القرآن، وقارن النص الإنجليزي بالنص القرآني، وهذه طريقة فعالة، فهي ربطُ ما بين الأسلوب العربي والأسلوب الإنجليزي.
ثالثًا: اطّلعْ على الكتب التي تُعنى بالاستعمال القرآني وأساليبه، من كتب البلاغة والتفسير وغيرها.
رابعًا: استعملْ ما وقعتَ عليه من أساليب وعبارات ومفردات في جمل من إنشائك باللغتين الإنجليزية والعربية.
﴿ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ﴾