top of page
  • روان بدر

ترجمة الشعر: القبض على الماء


يقول الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز: "لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيتٍ من الشعر، فتؤديه بعبارة أخرى؛ إذ إنه إذا تغير النَّظْم فلا بد حينئذٍ من أن يتغير المعنى".

فإذا كان تغير النظم يغير المعنى فما الذي سيحدث عندما تتغير اللغة؟!


يورد سليمان أبو عيسى في بحثه "ظاهرة الحذف بين النحو والبلاغة" بيت ضابئ بن الحارث مثالا على الحذف الذي يستخدمه الشعراء للمحافظة على وزن البيت:

ومَنْ يَكُ أمْسَى في المَدِينةِ رَحْلُهُ        فإنِّي،  وقَيَّارٌ،   بِها    لَغَرِيبُ

 لكنه يوضح أن للحذف هدفٌ معنوي أيضا، فالشاعر الذي يدخل المدينة التي لا يعرف فيها أحدا إلا حصانه (قيار)، يستخدم لوصف حاله وحال حصانه صيغة المفرد "غريب" عوضا عن قوله: أنا غريب، وقيار غريب، أو غريبان. تماما كما لو أنه يود إخبارنا أنه ليس ثمة من يشاركه شعوره أو يحس بمثل إحساسه سوى هذا الحيوان الأعجم، فحذف المسند (غريب) هنا للإيحاء بتوحد الإحساس والمشاركة الوجدانية التي يتخيلها الشاعر بينه وبين فرسه، فليست هنا غربة للشاعر وغربة لفرسه، ولكنها غربة واحدة *. وهذا المعنى اللطيف الذي لا يصرح به الشاعر بالألفاظ لا بد وأن يضيع في الترجمة.

إن الشعر الجيد هو الذي لا يعطينا المعنى لفظا، بل يعطينا ظلا للمعنى، ويترك للخيال بقية المهمة. وربما لهذا السبب يَفسُد الشعرُ عند شرحه وتأويله، ويفقد هذه الدهشة التي تنتابنا حين نتلمس طريقنا إلى المعنى سائرين خلف فتات الخبز الملقى لنا في الطريق.

إذًا فصناعة الشعر تبدأ بالشاعر، فاللغة، فالمتلقي، فالتأويل، أما عند ترجمته فيُضطر المترجم إلى البدء بالتأويل، فاللغة، فالمتلقي، في محاولة منه لنقل الأثر الذي تتركه القصيدة في نفس قارئها في لغتها الأصلية. إن المترجم يحاول إذًا أن يترجم ظلال المعاني وخيالات اللغة. إنه يحاول أن ينقل لنا "معنى المعنى" ** كما يسميه الجرجاني، أو كما يقول المترجم ايف بونفوا: "إننا حين نترجم الشعر نتجاوز مسألة الشكل، الذي هو القصيدة، ونتجه إلى الشعر نفسه الذي تحاول القصيدة أن تمسك به".

وفي وسط هذه المحاولات ينجح من ينجح، ويفشل من يفشل، ويعترض من يعترض، ونرى أكثر من ترجمة مختلفة للقصيدة الواحدة، ويُفقَد من روح الشعر ما يُفقد. ويبدو أنه لا مخرج من مأزق ترجمة الشعر سوى "ألا يترجم الشعر إلا شاعر" كما يقول شحاذة الخوري.



* ظاهرة الحذف بين النحو والبلاغة - سليمان أبو العيسى

** "إن المعنى هو المفهوم من ظاهر اللفظ. أما معنى المعنى فهو أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر."


٣٢٩ مشاهدة٠ تعليق

المنشورات الأخيرة

إظهار الكل
bottom of page