top of page
  • رناد الجديد

الترجمة خلف مقود السلطة الرابعة


أن تترجم في غرفة الأخبار يعني أن تُسلَب هويتك الترجمية البحتة، وأن تحصل على هوية جديدة تكون بموجبها صحفيًّا وباحثًا ومحققًّا في شتى المجالات، إذ أنت بطل المفاجآت المرتقبة، وفي تحدٍّ مستمر، ساعة بساعة مع كل خبر جديد تتلقاه، فتجد نفسك تبحر بين السياسة والاقتصاد والشؤون البرلمانية والسياحة والفنون في يوم واحد. وكأن المترجم الصحفي عدة عقول مجتمعة في عقل واحد مع نظرة ثاقبة لالتقاط جوهر الخبر وامتلاك مقومات الكتابة الجاذبة للقراء في وقت يصبح فيه الإخلاص لكلمات النص وتراكيبه أقل المعايير أهمية.

"ترجمي بذكاء" .. كان هذا أبرز تعليق تلقيته من محرر الأخبار المحلية في الصحيفة الناطقة بالإنجليزية التي تدربت فيها ميدانيا، وكان تعليقًا على ترجمتي التي أشاد بلغتها السليمة، لكنه استطرد في الكلام وذكر افتقارها إلى روح الخبر الصحفي وأبرز مقوماته الأسلوبية.

أذكر ذلك النص الذي ترجمته قبل خمسة أشهر وكأنني ترجمته بالأمس. أديت واجبي بإخلاص تام للنص العربي الذي تلقيته والذي بدأ بـ:

"التقى رئيس الوزراء بالمسؤولين فلان وفلان – مع اسمين ولقبين يبلغ طولهما سطرين - في مكتبه اليوم الثلاثاء".

وانتهى بذلك تمهيد الخبر، ثم ذكرت وكالة الأنباء الهدف من الزيارة وهو تقديم عدة مقترحات للضرائب الزراعية، ثم اختتم الخبر بإشادة المسؤولين بدور الرئيس وشكرهما على جهوده.

ما فعلته أنني ترجمت النص الإنجليزي بالتركيب والبنية نفسهما، فخرجتْ ترجمة تفتقر لـ"الذكاء في النقل" بتأويل تعليق المحرر.

كيف أترجم بذكاء؟

حين نتأمل التركيب الأمثل للخبر الصحفي، نجده يتبع أسلوب الهرم المقلوب "The Converted Pyramid" إذ إن البداية لا تكون القاعدة الكبرى للهرم بل رأسه الضيق. لأن محرري الصحف يدركون أن القارئ بطبيعة الحال – بعد قراءة العنوان - قد لا يقرأ أكثر من الاستهلال (الفقرة الافتتاحية ذات السطرين إلى ثلاثة أسطر) والتي تسمى في الخبر الإنجليزي بـ "The Lead" فينبغي للاستهلال المثالي أن يجيب عن الأسئلة الأساسية الخمسة: (ماذا ومن ومتى وأين ولماذا) حتى تعطي القارئ مفتاح الخبر ثم له حرية استكمال القراءة لمعرفة جواب "كيف" وغيرها من التفاصيل.

مع مقدمة "التقى فلان بفلان في مكتبه يوم كذا" مع ذكر ألقابهم الطويلة التي استنفدت الحد المسموح به للفقرة الافتتاحية، فقد أجبرنا القارئ على التوقف عن قراءة هذا الخبر الذي سيصنفه على أنه روتيني ولا جديد به، لكن البحث والتنقيب في خلفية الخبر – سواء ذكر صراحةً أم أشير له ضمنيًّا فقط - قد يقلب الخبر رأسًا على عقب، بدايةً في ذهن المترجم، ومن ثم في صياغته، وأخيرًا في تأثيره في قارئه.

كان اللقاء للخبر المذكور على خلفية اعتصامات ممثلي القطاع الزراعي واحتجاجهم على الضرائب التي فرضت عليهم، ثم جاء اجتماع المسؤولين لطرح حلول واقتراحات. فمعرفة خلفية الخبر وحدها أوضحت مدى أهميته، وهنا يكمن ذكاء المترجم في تغيير الترتيب أو إعادة الصياغة في محاولة ترجمة وبناء خبر يشد القارئ ويدفعه للإكمال.

لذا يصبح الاستهلال الجديد (سواء بالعربية أو بنقله للإنجليزية):

"اجتمع رئيس الوزراء، اليوم الثلاثاء، باثنين من صناع القرار لمناقشة أهم المقترحات لضرائب القطاع الزراعي عقب سلسلة احتجاجات شهدتها البلاد من المزراعين وممثلي القطاع".

وبذلك، وبنفس عدد الأسطر، أصبح الخبر بالغ الأهمية وجاذبًا للقارئ لمعرفة أطراف الحديث وإلى ماذا خلص النقاش، ويمكننا في الفقرات التالية - بأريحية تامة - الإسهاب في الأسماء والألقاب الطويلة وأي تفاصيل أخرى مرتبة على حسب أهميتها.

كان هذا جانبًا واحدًا من الترجمة بذكاء تحت مظلة السلطة الرابعة - الصحافة - وللحديث بقيّة ...





١٣٠ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page