- بقلم: ميساء ناجي
السترجة

سأستكمل معكم في هذا المقال ما بدأته في مقالي السابق عندما تحدثت عن الترجمة السمعية البصرية. وسأحكي اليوم في حكايتي الرابعة عن السترجة، أو ما يُسميه البعض "الترجمة المرئية". لا أخفيكم أنني عندما بدأت كتابة مقال الترجمة السمعية البصرية وضعته تحت عنوان "السترجة" ظنًا مني أن كليهما عنوان لمجال واحد. وأثناء البحث والكتابة استنتجت أن السترجة فرع من فروعها، بل أحد فروعها الرئيسة.
لقد أصبح الاهتمام بالإنتاج المرئي وتسويقه ضروريًا ومهمًا على الصعيد العالمي في عصر العولمة، خاصة مع انتشار الحواسيب والهواتف المتنقلة، ومع توفر الشاشات بمختلف التقنيات والأحجام والأنواع. وتقوم السترجة على ترجمة المحتوى الشفهي أو النصي الذي يظهر على الصور في الشاشة بلغة غير لغته الأصلية. وتهدف إلى إيصال الثقافات والمعلومات عن طريق التواصل اللغوي؛ فاللغة هي الجسر الذي يربط الثقافات والقيم التي تتجسد على الشاشة باعتبار الترجمة عملية تواصلية. وما زال هذا الفرع يواجه صعوبات وتحديات جمّة. ويختلف دور المترجم نوعًا ما في هذا المجال، فهو هنا بصدد تكييف المحتوى النصي الأصلي حسب الجمهور المتلقي، فيتصرف في الترجمة ليُكيّفها بما يناسب المتلقي. ولهذا يسمى المترجم الذي يعمل في السترجة بالمترجم (المتصرف) أحيانًا.
إذن، ما هي السترجة؟
يعود أصل مصطلح (السترجة) إلى اللغة الفرنسية، وهو مصطلح مشتق من كلمة (Sous-titrage) في اللغة الفرنسية التي نُحِت منها، أما في اللغة الإنجليزية فيقابله مصطلح (Subtitling).
ويُعرف قاموس (Laoursse) مصطلح السترجة أنه: "ترجمة الحوار الأصلي المنطوق في الفيلم السينمائي، وتظهر على الشاشة أسفل الصورة".
وهناك الكثير من الجهود العربية المبذولة لتوحيد مصطلح السترجة في العالم العربي. وبناء على ذلك فهناك اقتراح لاستخدام مصطلح "الترجمة المرئية"، ويستعمل هذا المصطلح في دول المشرق العربي، في حين أن مصطلح "السترجة" يستعمل في دول المغرب العربي.
مراحل السترجة:
تمر السترجة بمراحل تتطلب مجهودًا ودقةً في العمل حتى يخرج النص المترجم بجودة عالية، وهذه المراحل تتشابه وتختلف في بعض فروع الترجمة السمعية البصرية مثل التفريغ والتعليق النصي. ويمكن أن ندرج ضمن مراحل عملية السترجة:
تفريغ المحتوى الصوتي (Transcription) إلى نص مكتوب، ويعتمد التفريغ النصي للمحتوى الأصلي على استخدام اللغة نفسها. ويشمل التفريغ النصي وصف كل التغييرات، والتأثيرات الصوتية. وما يميز التفريغ النصي هنا أنه غالبًا ما يستعمل مع الملفات السمعية فقط، ولا يحتاج إلى المزامنة مع المقطع.
التقطيع (segmentation) في هذه المرحلة يُجزأ النص المكتوب على سطور السترجة مع مراعاة العامل اللغوي والزمني. ويُنصح ألا يتعدى وقت ظهور سطر السترجة على الشاشة 6 ثوان.
التعليق النصي (Captioning) وهنا تكون مزامنة المحتوى النصي المفرغ مع مقاطع الملف السمعي البصري، ويمكن استخدام التعليق النصي بهدف تسهيل فهم المادة المرئية على الصم وضعاف السمع، وتطوير المهارة القرائية لدى المشاهدين أيضًا، إذ إن التعليق النصي يكون على مستوى اللغة الواحدة.
السترجة (subtitling) وتختلف عن المصطلحين السابقين، فهي تهدف إلى ترجمة محتواهما.
وتنقسم السترجة إلى قسمين:
أ/ السترجة داخل اللغة الواحدة (Intralingual) وهذا النوع مخصص للصم وضعاف السمع كما أشرنا في مقالنا السابق. ولا يُكتفى هنا بنقل المحتوى الشفهي إلى نص مكتوب في نفس اللغة المصدر، بل يشمل التأثيرات الصوتية مثل الموسيقى أو التصفيق، وهي بدورها لا تنتمي إلى الحوار لأنه وصفي نوعًا ما. ويُوظف في هذا المجال ألوانًا مختلفة بحسب المتحدثين في المادة المرئية للتعريف والتمييز بين المتحدثين.
- السترجة بهدف تعلم اللغة.
- السترجة للهجات في نفس اللغة.
- السترجة في نفس اللغة للإعلانات والتصريحات.
- السترجة لتأثيرات تقنية "كاريوكي": وهي تقنية تقوم على تشغيل أي أغنية أجنبية بالموسيقى فقط دون صوت المطرب مع عرض الكلمات على الشاشة إذْ يمكن غناء الكاريوكى بصوت المستخدم بدلا من صوت المطرب أو المغنى الأصلي للأغنية.
ب/ السترجة بين لغتين أو أكثر (Bilingual subtitling) وهنا يكون التوجه نحو المشاهد الأجنبي. فالترجمة بين لغتين أو أكثر. ولا يحتاج هذا النوع إلى وصف التأثيرات الصوتية والعناصر الأخرى، بل يُكتفى بترجمة الأشياء التي تظهر على الشاشة، وهذا يشمل اللافتات، مثل أسماء المدن والطرقات والشوارع، وحتى التواريخ والأرقام. كما أنه يُستخدم أيضًا للصم ومن يعانون من صعوبات السمع.
المراجعة (Editing / Proofreading) وهي المرحلة الأخيرة في عملية السترجة. وهنا يُراجع المترجم أو المدقق العمل. وتشمل المراجعة التقنيّة من ناحية توقيت المزامنة بين سطور السترجة، والنص الصوتي، وتوقيت ظهورها، واختفائها، بالإضافة إلى التنقيح اللغوي. ولا بد أن يقوم بهذه العملية مترجم آخر، أو متخصص لغوي لتجنب الأخطاء اللغوية.
وتُركز السترجة على عناصر محددة، وهي الحوار الأصلي للمتحدث في المادة المرئية سواء كان ظاهرًا على الشاشة أم لا. كما تُركز على عناصر النص، أو العناصر الخطابية الظاهرة في الصورة مثل الحروف والكتابات على الجدران واللافتات وغيرها. وهناك عناصر أخرى تشمل الصوت، مثل الموسيقى والأصوات المختلفة.
أهم برامج السترجة:
سأتطرق هنا للحديث عن بعض البرامج المتعددة للسترجة، والتي ظهرت بفضل الحاسوب:
أ/ من البرامج المجانية التي تُتيح القيام بعملية السترجة نذكر على سبيل المثال:
Subtitle Workshop / Virtual Dub / Subtitle Edit / Subrip / Aegisub/ Sub Station Alpha/ SubtitleCreator/ Open Subtitle Editor/ SubMagic/ Amara.
ب/ البرامج غير المجانية، وهي لا تختلف عن البرامج السابقة من حيث عمل السترجة، ولكنها تسمح بالقيام بتعديلات أكثر احترافية، ومنها:
Spot/ iToolSoft Movie Subtitle Editor/ POP Subtitle Editor/ Video Subtitle Editor/ Womble EasySub/ Aura Video Edito
معايير مهمة يجب اتباعها أثناء عملية السترجة
يتطلب العمل على السترجة عدة عناصر حتى يخرج العمل على أكمل وجه، فهي ليست عملًا ترجميًا بحتًا، ولكنها عمل متكامل يحتوي على أكثر من عنصر، وأهمها المحتوى المرئي. ويحتاج المترجم إلى نسخة نهائية من الفيلم أو المقطع، من أجل ضمان عدم الخروج بنص مترجم مختلف عن المحتوى المرئي أو النصي للمادة المترجمة. كما أن السترجة عمل تكييفي، ومن ثم فلا بد من استعمال كلمات بليغة وسهلة توصل المعنى بعيدًا عن الإطناب.
فمن الناحية اللغوية تظل ترجمة النص ترجمة تحريرية تخضع للآليات والشروط نفسها التي تخضع لها الترجمة التحريرية. ومن الناحية التقنية لا بد من مراعاة العديد من الأمور التي تؤثر في جودة العمل وصورته النهائية. كما أنني أودّ الإشارة إلى أن هذه المعايير عامة تنطبق على جميع اللغات، ولا سيما اللغات الأجنبية. لذلك يجب التنبّه عند الترجمة إلى اللغة العربية، خاصة في الاتجاهات والنواحي اللغوية:
- يجب أن يُراعي المترجم التوقيت لتخرج سطور السترجة موافقة للشخصية المتحدثة على الشاشة. كما يجب ألا يتعدى وقت ظهورها 6 ثوانٍ، ويمكن أن تتعدى ذلك في حالات استثنائية.
- لا بد أن يُحدد المترجم بنفسه وقت اختفاء سطور السترجة وظهورها في مرحلة المزامنة.
- يجب ألا تتعدى سطور الترجمة سطرين على الشاشة. ومن الناحية اللغوية يجب أن تشمل السترجة كل المحتوى الشفوي المنطوق. كما يجب أن تشمل أي محتوى نصي آخر ربما يظهر في الفيلم من لافتات أو أسماء الشوارع.
- لا بد من استعمال ألوان واضحة كالأبيض، ومن الضروري ألا يكون هناك تداخل بين لون السترجة وألوان الصور الظاهرة على المادة المرئية سواء كانت فيلمًا أو برنامجًا.
- الحد الأقصى لعدد الأحرف في سطور السترجة 42 حرفًا.
- في اللغات التي تعتمد على الحروف اللاتينية، يجب أن تُقسم سطور السترجة إلى سطرين إذا كان عدد الأحرف يتجاوز 42 حرفًا، لأن السطر الطويل أصعب قراءةً من سطري السترجة القصيرين. كما أن بعض المشغلات غير المتصلة بالإنترنت ربما لا تستطيع عرض الأسطر الطويلة.
- ويجب أن تكون الترجمة المكونة من سطرين متوازنة بشكل أو بآخر. لذلك يعتمد الحد الأقصى الممكن لطول السطر على ما إذا كانت سرعة القراءة لا تزيد عن 21 حرف في الثانية. وطالما أن سرعة القراءة تسمح بذلك، فيمكنك الحصول على سطرين يصل عدد أحرفهما إلى 42 حرفًا في الترجمة.
- إذا دعت الحاجة إلى تقسيم السترجة إلى سطرين منفصلين فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن تقسيم الأسطر يجب أن يكون بناء على نهاية جملة متكاملة، أو معنى متكامل، مثل ضرورة أن تلحق الصفة الموصوف. وإذا لم يكن ذلك ممكنًا، فيجب إعادة صياغة النص المترجم بما يناسب أسطر السترجة.
- يجب ألا يقل وقت ظهور سطر السترجة على الشاشة عن ثانية واحدة.
- يجب أن يكون التوقيت مطابقًا للحوار، فلا تترك الترجمة على الشاشة بعد انتهاء الحديث.
- يجب أن يكون الخط واضحًا ومقروءًا، كما يجب ألا تحتوي الأحرف على زوايا حادة.
- تختلف قواعد تقسيم الأسطر والحوار من الناحية النحوية من لغة إلى أخرى.
- لا داعي لاستخدام النقاط أو الفواصل في نهاية سطر السترجة.
- إذا لم يكن السطر مكتملًا، تستخدم ثلاث نقاط، ثم نبدأ السطر التالي بثلاث نقاط أخرى. ويمكن استخدام النقاط عند الخروج عن السياق، أو في حال عدم اكتمال الجملة.
- يجب أن يكون هناك ترابط وثيق بين حوار الفيلم ومحتوى السترجة. لذلك لا بد أن تكون اللغة المصدر متزامنة مع اللغة الهدف قدر الإمكان.
- يجب أن يخضع العمل للمراجعة والتدقيق، شأنه شأن أي عمل مترجم.
- يجب التعريف بالمترجم في نهاية الفيلم.
- يجب وضع تاريخ إنتاج السترجة، وحقوق الطبع للنسخة في آخر الفيلم.
- يجب أن يكون نص السترجة في منتصف الشاشة، وحين يكون هناك حوار بين شخصيتين في المشهد نفسه يجب أن يسبق كل سطر شرطة، وتوضع الأسطر حسب اتجاه اللغة، ثم توضع في منتصف الشاشة.
مثال:
- كيف حالك
- أنا بخير
- عند استخدام سطرين غير متساويي الطول، ينبغي أن يكون السطر العلوي أقصر تمامًا للحفاظ على الصورة قدر الإمكان لأن الصورة هي الأهم في هذا المجال، ولا تنسَ ضبط مكان ظهور الترجمة، سواء إلى اليسار أو اليمين بحسب اللغة لتقليل حركة العين غير الضرورية.
ومن المهم جدًا الإشارة هنا إلى أن عملية السترجة في مجال الأفلام تحديدًا تخضع لمقاييس محددة، ومعايير عالمية تحكمها مؤسسات دولية مثل:
ISO: International Organization for Standardization
أو قنوات عالمية مثل (BBC).
التحديات والعقبات
يواجه المترجمون في هذا المجال العديد من التحديات والصعوبات. وسنذكر فيما يلي بعضًا منها:
سرقة ملفات الترجمة، واستخدامها - دون استئذان - في المواقع الأخرى من أجل جذب الأعضاء والمشاهدين. وهذا سببه عدم وجود هيئة تحكيمية للفصل "افتراضيا" في هذه المنازعات ومنح الحقوق أصحابها. وهذه المشكلة ليس لها حل في المستقبل القريب. كما أن هذا الأمر من شأنه أن يجعل حقوق المترجمين المتميزين محل استخفاف، فـتُسرق أعمالهم غالبًا دون أن يُلقي السارق لذلك بالًا.
اقتحام أولئك الذين لا يفهمون بأصول الترجمة وقواعدها وضوابطها هذا المجال. وبالطبع غالبًا ما تكون نتيجة هذه الترجمات سيئةً تفتقر إلى الحرفية والمهنية.
مشاكل المترجمين الهواة جعل الأمر أكثر تعقيدًا. ذلك أن هؤلاء المترجمين قادرون على ترجمة المواد المرئية وجعلها في متناول الجمهور المحلي الذي يمكنه مشاهدة الأفلام المنسوخة بطرق غير قانونية وباللغات المختلفة. بالإضافة إلى ضعف جودة مخرجاتهم، سواء من حيث الترجمة أو حجم الخط وغير ذلك.
ظروف العمل وقيوده وطبيعة المنتج المراد ترجمته.
ضيق الوقت، فغالبًا ما يكون الموعد النهائي قريب جدًا. ومنها أيضًا طرق الدفع، والأدوات التقنية المستخدمة.
إعادة صياغة اللغة، واللهجة العامية، والمصطلحات المختلفة، والعبارات غير اللائقة، ونقحرة أسماء العلم، وأخطاء المتحدث، ومزامنة الصورة مع النص، وحتى المراجعة والتدقيق لن يكونا أمرًا يسيرًا في مثل هذه العملية.
حقوق المترجم كما أشرنا سابقًا.
ظهور تقنيات جديدة سواء في مجال البث، فقد بدأت تظهر تقنيات جديدة مثل الأفلام القصيرة جدًا، والمقاطع القصيرة جدًا مدتها دقيقة أو دقيقتان، وتركز على دور اللقطات المقربة والمسارات الصوتية. فلقد غيرت التقنيات الحديثة آلية البث وفكرة الجمهور المعتادة.
ويجدر بنا أن نشير إلى أهمية تطوير المترجم مهاراته باستمرار. كما يجب أن يكون مطلعًا على كل ما هو جديد في مجالات الترجمة والجوانب التقنية التي تخص عمله. ولكي يقدم المترجم ترجمة سمعية بصرية - وسترجة مُتقنة على وجه الخصوص - يجب عليه أن يفهم إيقاع الخطاب، وإيماءات الممثل أو المتحدث، وتكتيك الصور، وإيقاع قراءة الجمهور. والمترجم بحاجة إلى الخبرة في كتابة المسودات وتفريغ الصوت، فهذه عملية صعبة تتطلب خبرةً، ومعرفةً بالمصطلحات والتعابير المستخدمة التي قد تختلف باختلاف المجال الذي تتحدث عنه المادة المرئية. هذا بالإضافة إلى مهارات إعادة الصياغة والتحرير السريع في إطار حدود زمنية قد تكون ضيقة في أحيان كثيرة. ومن هذا المنطلق نُشير إلى أن مجال السترجة يمكن أن يكون فرصة للتعلم الذاتي، ومن ثم يمكن تسميته "تدريب بلا مدرب"، فهو يعتمد على جهود المترجم الذاتية بمزيد من الممارسة لتطوير مهاراته، ودعم قدراته اللغوية والثقافية.
وأخيرًا .. لقد أصبح العالم منفتحًا بعضه على بعض، وصار الجمهور مترابطًا عالميًا، وهكذا ظهر لدينا مصطلح (الإعلام الجماهيري). كما أن الجماهير ذات الخلفيات التعليمية واللغوية المتنوعة تجد ضالتها في القنوات المتخصصة وغير المتخصصة بفضل الترجمة. فوجود فيديو على اليوتيوب أو فيلم على الإنترنت يعني توفره للجميع. وحرصًا من المنتجين على الجمهور والمعجبين فقد أصبحت قنوات البث المختلفة تراعي فارق التوقيت عند بث مثل هذه الأعمال. فما بالنا بدور الترجمة في هذا المجال وهي تضمن الوصول الفوري إلى المسلسلات المشهورة والأفلام الجديدة والمواد المرئية عمومًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصــــادر:
http://www.channel4.com/media/documents/corporate/foi-docs/SG_FLP.pdf
http://dspace.univ-tlemcen.dz/bitstream/112/7790/1/alem-ahmed.pdf
https://videoconverter.wondershare.com/ar/subtitle/subtitle-maker.html