top of page
  • ظافر طحيطح

الترجمة بين التنظير والتطبيق


عندما يصطدم طالب الترجمة بنظريات الترجمة ودراساتها (وغالبًا ما يكون ذلك في مرحلة الماجستير) يبدأ منزعجًا ومستغربًا وهو يحاول فهم علاقة هذا التنظير "بالواقع" العملي للترجمة. وقد يرفض مباشرة هذا النوع من الطرح لبعده عن الجانب العملي الملموس من الترجمة، مرددًا في ذلك السؤال القديم: "ما الفائدة من دراسة هذه الأمور؟" وربما نجد هذا الموقف أكثر حدةً عند من مارس الترجمة عمليًا مدةً طويلة أكثر من غيره. فهل نظريات الترجمة وأبحاثها تفيد المترجم فعلاً؟ وهل يجب على المترجم دراستها؟ وماذا عن المترجمين الذين لم يدرسوا هذا التنظير؟ ربما تجد الكثير ممن درسوا الترجمة بجانبيها الأكاديمي والبحثي ينافحون بكل بسالة عن أهمية التنظير، فيمطرونك بمصطلحات الترجمة المختلفة مثل التقريب والتغريب والتعريب والتوطين والنقحرة والسترجة والدبلجة والسكوبوس، وغيرها مما لا يُعرف له تعريبًا، فيزداد الرافضون للتنظير اقتناعًا بعدم جدواها.

وتجد الفريقين يتبادلان الحجج، فيبدأ المنظّرون بذكر إستراتيجيات الترجمة المختلفة واستخدامها، ويرد الممارسون أنهم لطالما ترجموا بنجاح دون علمهم بهذه المصطلحات وتصنيفاتها. ثم ينتقل المنظرون إلى نقاش نجاح الترجمة ومعاييرها وتقييمها، ليرد عليهم الممارسون بأن التنظير يُصعّب عملهم ويدخلهم في متاهات تبرير الاختيارات الترجمية التي تُضر بسلاسة الترجمة وسرعتها. وهكذا يستمر النقاش الذي لا ينتهي أبدًا.

ولكن، ألم يكن هناك، منذ فجر البشرية، مئات آلاف من المترجمين الذين لم يدرسوا الترجمة ولا نظرياتها، وإنما كانت معرفتهم بها عبر الممارسة والتطبيق؟ ألم يترجم الناس عبر التاريخ من مختلف اللغات وبشتى الطرق؟ لكي نحاول الإجابة عن هذه التساؤلات قد يساعدنا النظر في مختلف المجالات والفنون البشرية لنجد أن الترجمة ليست استثناءً. فلقد مارس الناس منذ القدم العديد من الفنون، كالتجارة والسياسة والتربية، ولم يكن لها دراسات وأبحاث نظرية ولا فلسفات أو مصطلحات، بل كانت الممارسة العملية هي الانطلاقة، والتجربة والخبرة العملية هي المدرسة الأساسية. ومع مرور الزمن وتعقد المجتمعات تطورت تلك الممارسات البدائية لتواكب ذلك التطور، وتطورت معها بعض المفاهيم الأولية للنظر إلى هذه الفنون ومؤثراتها ومعرفة قوانينها والتنبؤ بمآلاتها. والترجمة ليست استثناءً، فهي ظاهرة بشرية تطورت مع الوقت عبر الممارسة والخبرة، ثم نشأ مع التطور البحثي والنظري بعض المحاولات العلمية لدراسة قوانين هذه الظاهرة على غرار باقي الظواهر. ولعل هذه النقطة تبين سبب وجود التنظير ولا توضح فائدته العملية في "الواقع"! إذن، ما فائدة دراسة نظريات الترجمة، أو التجارة والسياسية وغيرها إذا كانت المعرفة وحدها عبر الممارسة تكفي؟

لعل كثير من المعارف والممارسات والمهارات تعتمد اعتمادًا كبيرًا على القدرات الفطرية، ويكون للفروقات الفردية الكعب الأعلى في التباين بين الناس في شتى المجالات. فكثير ممن سطع نجمه في فن من الفنون، أو برع في التجارة مثلًا، أو أبدع في حرفة من الحرف، كان له نصيب من ذلك النبوغ الفطري الذي ميّزه عن أقرانه. بالإضافة إلى عوامل أخرى كالحظ وتوفر الفرص وغير ذلك من الأمور التي لا سلطة لنا عليها. رغم ذلك؛ فإن سوق العمل ومتطلبات الحياة المعاصرة لا تنتظر تلك المواهب والكفاءات الفطرية النادرة حتى تلبي احتياجاتها وذلك لندرتها وعشوائيتها، ولتلبية تلك الاحتياجات نشأت أنظمة للتعليم والتدريب من جامعات ومراكز مختلفة تُخرّج أعدادًا كبيرة من المتخصصين في شتى المجالات ممن لديهم الحد الأدنى من المعرفة والمهارة للقيام بشتى الأعمال. وأحد هذه المتطلبات هم المترجمون، ولتدريب عدد كبير منهم وتطوير جودة الترجمة وتسهيل العملية الترجمية وتطوير أدواتها المختلفة، لابد من البحث العلمي النظري والتطبيقي الذي يساهم في إثراء الجانب العملي للترجمة. وعليه فإن فهم الظاهرة الترجمية لا غنى عنه من مساعدة المترجمين في ممارستهم التطبيقية عمومًا، أفرادًا كانوا أم مجموعات، وفوق ذلك فالمصطلحات النظرية توفر لهذا المجال اللغة الدقيقة التي يحتاج إليها المختصون حتى يناقشوا مشكلاتهم بدقة. ربما لو شبهنا الترجمة بعزف الموسيقا، سنلاحظ أن تعلم العزف عبر الممارسة ممكن وشائع جدًا، وغالبًا ما يتميّز العازف الذي تعلم العزف بالممارسة مهارة العازف الذي تعلمه عبر التلقين وقراءة النوتة الموسيقية. إن تعلم النوتة يضيف للعازف الماهر ولا يقلل من إبداعه، لذلك يعطي التعليم النظري للموسيقي الحد الأدنى من المعرفة الذي يجعل الشخص جزءًا من أوركسترا تعزف مختلف الألحان، وذلك هو الحال مع تدريب المترجمين. حتى لو افترضنا جدلًا أن الدراسة النظرية ليست ذات تأثير مباشر أو غير مباشر في التطبيق، فيكفي أن المعرفة بحد ذاتها مطلب وغاية ينبغي السعي إليها.


٥٨٥ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page