- ظافر طحيطح
إذا كان الطبيب يستطيع أن يترجم، فهل يمكن للمترجم أن يعالج؟

لعل مثل هذه الأسئلة تزعج زملائي المترجمين وتغضبهم. ولكن في رأيي أن أي طبيب ثنائي اللغة يستطيع أن يترجم بين لغته الأولى والثانية إلى حد ما. والشواهد على ذلك كثيرة، سواء من كتب الطب التي ترجمها أطباء أو من المواقف التي تحدث يوميًا في مختلف المرافق الطبية. ولكن لم أسمع عن مترجمٍ يعالج الناس بعد ترجمته عددًا من النصوص الطبية، أو بعد إمضائه بضع سنوات مترجمًا شفويًا بين أروقة المستشفيات. ومهما بلغ المترجم من الخبرة الترجمية إلا أن وصوله للمعرفة الطبية ليس بسهولة وصول الطبيب للمعرفة اللغوية والترجمية. قد تزعج هذه المقارنة زملائي المترجمين مرة أخرى. فكل شخص يكره من يتطفل على مجاله وصنعته واختصاصه. ولعل المترجمين أكثر من يشتكي أن "تخصصهم" منتهك من كل من تعلم لغتين أو أكثر. ولكن .. أليست الترجمة ممكنة إذا عرف الشخص لغتين؟ هل يظن المترجمون أن الترجمة أعقد من ذلك؟ هل يشعر المترجمون بالحرج من بساطة تخصصهم؟ هل يتضايق المترجمون من عدم تقدير المجتمع وسوق العمل لهم؟ لماذا يحاول المترجمون فعلًا احتكار هذه المهارة اللغوية؟ هل للتكسب من هذا الاحتكار؟ يذكرني التساؤل الأخير بقصة للجاحظ مع أستاذه الأخفش حينما سأله عن سرّ تصعيبه لعلم النحو وتعقيده رغم سهولته؛ قائلاً: "لم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها، ولا نفهم أكثرها؟ وما بالك تقدم بعض العويص، وتؤخر بعض المفهوم؟" فرد عليه الأخفش بقوله: "أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين. ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلّت حاجاتهم إليّ فيه. وإنما قد كسبت في هذا التدبير، إذ كنت إلى التكسب ذهبت"! فهل ورث مترجمونا حكمة الأخفش وصنعوا حول الترجمة سورًا وهميًا من التعقيد لكي يحافظوا على لقمة عيشهم؟ أنا على يقين الآن من غضب المترجمين عليّ هذه المرة، ذلك أني سأفشي سرًا من أسرارهم وسأعترف بأن الترجمة أبسط من أن يحتكرها أصحاب الشهادات والدورات والمؤهلات الترجمية. فالترجمة بأبسط صورها هي نقل كلمة أو معنى من لغة إلى أخرى. وبهذا المعنى، فإن كل شخص يتقن لغتين يمكنه أن يترجم. ولذلك، يستطيع الطبيب العربي الذي درس الطب باللغة الإنجليزية مثلاً الترجمة بما تقتضيه الحاجة بين تلك اللغتين. وإذا رجعنا إلى سؤالنا الأول، لوجدنا أن السؤال عن مدى قدرة المترجم على التطبيب يقودنا إلى سؤال أكبر في دراسات الترجمة: "هل يمكن للمترجم ترجمة نص متخصص في مجال ما دون الإلمام بذلك المجال؟". وهذا السؤال عادةً ما يطرح في الجوانب العلمية تحديدًا، فهل يمكن للمترجم ترجمة نص عن الجينات دون تخصصه في علم الجينات ودقائقه ومصطلحاته؟ هذه الفكرة ليست جديدة، بل ذكرها الجـاحـظ في تنظيراته عن الترجمـة فقال: "ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة"، وهذا الادعاء يتطلب أمرًا صعب المنال وبعيدًا عن الواقع غارقًا في المثالية. ربما نحتاج إلى أن نجازف بالقول إن كل من عنده معرفة طبية معينة يستطيع أن يتطبب بتلك المعرفة (فضلا عمن ترجم في الطب). وتزداد قدرة التطبيب بازدياد معرفته بها حتى إذا تساوت معرفته الطبية بمعرفة الطبيب (وهذا ممكن عقلًا) فعندها نستطيع أن نسمي ذلك المتطبب طبيبًا. وبالمثل، فالطبيب الذي يحترف الترجمة ويتقنها ويمتهنها ويرتقي في هذا المجال لا نستطيع أن نحرمه من لقب مترجم. ولتوضيح الفرق بين المرحلتين أو المكانتين، دعونا نقوم بعمل تقسيم جوهري. التفرقة هي بين (مترجم) و(مترجم محترف)، فالمترجم هو كل من يقوم بعمل ترجمة على هامش وقته لحاجة أو لشغفٍ أو لغير ذلك من الأسباب، وهذه الترجمة "تؤدي الغرض" في الغالب وقد تسبب كوارث. أما المترجم المحترف فهو شخص ذو معرفة لغوية عميقة ومعها دراية بعمق الثقافتين اللتين يترجم بينهما. المترجم المحترف هو شخص كرّس نفسه للّغات وما يتعلق بها من الأمم والمجتمعات والثقافات. يدرك المترجم المحترف أن الترجمة مهارة تنمو بالصقل، وعلم يزداد بالمطالعة، فهو شخص تدرب واختبر ومارس مرارًا حتى أدرك مسؤولية عمله. وعليه فإننا نستطيع أيضًا التفرقة بين (التطبيب) و(الطب)، إذ إن كل من لديه معرفة بالإسعافات الأولية وبعض نصائح الطب التقليدي والشعبي أو حتى معرفة طبية علمية عن إطلاعٍ وتعلمٍ ذاتي فهو يستطيع القيام بنوع من التطبيب الذي "يؤدي الغرض" ولكنه قد يسبب الكوارث أيضًا. أما الطبيب فهو المحترف في مهنة الطب، الذي تعلمها تنظيرًا وتطبيقًا، وتدرب فيها، واختبر فيها مرارًا، وبذلك يتحمل مسؤولية أخطائه. لذلك، فكلنا نستطيع أن نتطبب ونشارك في الإعلام والفن ونمارس الرياضة والتجارة ونتحدث في السياسة والاقتصاد ونتعامل مع الإدارة وعلوم الدين، وأيضًا نترجم (بما يؤدي الغرض)، دون الحاجة إلى مؤهلات فيها. ولكن لا يغنينا ذلك عن متخصصين محترفين ومنظرين وعلماء في هذه المجالات.