- عبدالعزيز محمد الذكير
وقديمًا ترجموا: حول ارتباط اللغة بالهيمنة

نتيجة لانتشار الحضارة العربية والإسلامية، وكثرة إرسال البعثات العلمية إلى الجامعات العربية لتعلّم العلوم، بالإضافة إلى ما كانوا يقتبسونه من العرب عن طريق العلاقات الاقتصادية والاجتماعية من قِبَل طلاب العلوم من فرنسا وإنجلترا وغيرهما من الدول الأوربية، كل هذا أثر في انتشار الترجمة وتنامي فائدتها في العديد من دول أوروبا وخاصة إسبانيا وفرنسا وإنجلترا وصقلية. والسائح الآن يلاحظ في تلك البلدان أن اللغة العربية بقيت مستَعملة مدة طويلة إلى جانب لغات تلك البلدان، فدخلت العديد من مفردات العربية إلى اللغات الأوربية، والرحالة العربي ابن جبير زار جزيرة صقلية عام 580 هجرية فوجد أن تعميد ملوك النورمانديين تُكتب بالعربية واللاتينية واليونانية. وإدراكا لعظمة الترجمة في الماضي رأينا الدول المتقدمة المعاصرة تحمل مشعل المسيرة ذاته. فمع ازدياد وتيرة التقدم العلمي، وتسارع الاكتشافات والاختراعات أصبحت الترجمة ضرورة ملحة تحشد الدول النامية من أجلها كل الطاقات، وتوظف في سبيلها كل الإمكانات وذلك بهدف اللحاق بالركب العلمي مع الحفاظ على الهوية اللغوية والثقافية. فالترجمة تكفل نقل العلوم والاستفادة منها مع المحافظة على اللغة القومية وتنميتها وعدم استبدالها بلغة وافدة تقضي على الهوية، وتمكن الثقافة الوافدة من إضعاف مضامين الوحدة السياسية. واقتنع الناس بهذا الدور الرئيس للترجمة، بدليل أن اليابان تقوم بترجمة مئات الكتب يوميا من اللغات الأخرى إلى اللغة اليابانية ويدفعون المكافآت السخية لكل من برع في المادة العلمية. وحتى لا تتضارب المساعي فهم يطرحون قوائم شهرية لعدد غير قليل من الأعمال العلمية الجديدة، ومن وجد في نفسه الكفاءة يتقدم ثم يشرع في الترجمة. وتأتي في آخر المطاف مجموعة كبيرة من الدراسات والطروحات العلمية الأدبية والسياسية والاجتماعية . ولعلّ النظر في تاريخ الأمم يعطينا مؤشرات تؤكد الأثر العظيم للترجمة في تأسيس نهضة علميّة قويّة، ومناخ ثقافي منفتح متين، يمكّن الناس من المضيّ قدمًا في الإسهام، بما تحصل لديهم من معرفة وما تكوّن عندهم من قواعد أساسية في العلوم والمعارف التي أبدعتها الأمم الأخرى، في تقدٌم عجلة المعرفة والإضافة الجديدة المبتكرة في حقولها المختلفة وسرعة اقتطاف بحوث الآخرين وأفكارهم. وجاء ازدهار الصناعة مع الحفاظ على اللغة اليابانية والهوية اليابانية في وقت واحد. وإذا كانت اليابان، وهي دولة واحدة، تؤمن بالترجمة خيارًا استراتيجيًا للمحافظة على وحدة تراثها اللغوي في المقام الأول، فواجبنا أن نولى في بلادنا الترجمة أضعاف أضعاف ما توليه اليابان. أي أنه من المفترض أن تترجم آلاف الكتب إلى العربية يوميا في كل الاقطار العربية. ويجمع الباحثون على تقصير المؤسسات الثقافية في الوطن العربي في ميدان الترجمة. وهيكلة الدوائر الحكومية والأهلية جعلت المترجم لا يرقى إلا إلى فرد ضمن إدارة الشؤون الإدارية براتب ضئيل. ونقلت وكالة رويتر أخيرا خبرًا طريفًا عن عظمة مكانة الترجمة فقالت: إن السفير الفرنسي في مباحثات مع نظرائه في الاتحاد الأوروبي بسبب عدم وجود ترجمة للغة الفرنسية، في إشارة جديدة إلى مساعي باريس للحد من سيطرة اللغة الإنجليزية على مجريات الأمور في بروكسل بعد انسحاب بريطانيا من التكتل. وغادر الغرفة للتعبير عن استيائه وذلك بعد أن اكتشف عدم توفر وسائل تسهل الترجمة.