top of page
  • رناد الجديد

ومن الترجمةِ ما قَـتل 1




يُقال إن أخطاء الأطباء يواريها التراب .. أخطاء المترجم، من يواريها؟

لا أنسى نوبة الارتياع التي أصابتني وتسارع نبضات قلبي وارتعاش أطرافي حين حضر المحرر إلى قاعة الأخبار متسائلا بغضب: "من ترجم خبر زيارة الرئيس الألماني؟؟" أجمع المترجمون أن لا أحد منهم المسؤول، في حين اتجهت الأنظار إليّ، إنها المتدربة الجديدة. أدركت أني في مأزق لا فرار منه، وبدأت أسترجع شريط لحظاتي وأنا أترجم هذا النص، تذكرت أني لم أعرف كيف أكتب اسم المسؤول الألماني، لذا وضعت التهجئة العربية فيما أجده الصديق العدو: "جوجل ترجمة"، ونسخت التهجئة التي ظهرت لي كما هي. وتذكرت أني لم أفهم هل كانت قيمة المنحة المالية من ألمانيا للأردن استكمالا لمنح سابقة أم منحة جديدة، وتذكرت أني نقلت الـ 595 مليون من كتابة إلى رقم، ولربما أنقصت صفرًا!

     لم يكتشف هذه المصائب إلا المسؤول في السفارة الألمانية حين قرأ الخبر في الصحيفة اليوم التالي، فأجرى مكالمة هاتفية مع المحرر معبرًا عن استيائه من هذه اللامبالاة، في حين أخبرنا المحرر أن ألمانيا حليف مهم للبلاد، وأقل ما تجزى به مقال صحفي يشيد بما قدمت!

     تمنيت حينها لو أني ارتكبت هذا الخطأ في أحد اختبارات الترجمة، أو مشروع دراسي، تمنيت لو أن ما تلقيته حسم بضع درجات، أو توبيخ من أستاذتي. لكن الأمر انتهى والخطأ وقع، ولم يكن لنا إلا الاعتذار ونشر تصحيح في عدد اليوم التالي، أما المهمة الأصعب فقد كانت بناء جدار الثقة مجددًا، ليس بيني وبين الطاقم فقط، بل بيني وبين نفسي، إذ شعرت وقتها بالخوف والتردد يحاصرني، وبأن قريحتي شُلّت. كنت بائسة كطبيب مبتدئ توفى مريضه بين يديه ففقد ثقته بالقدرة على إمساك مبضعه.

     أذكر كيف أصبحت أضحوكة في الصحيفة بعد حالة الهلع التي سيطرت عليّ ونوبة البكاء التي باغتتني وأنا أراجع الخطأ الذي نُشِر وأقارن الترجمة بالنص الأصلي. "سنرفع اسمك إلى الإقامة والحدود لسحب جواز سفرك" هكذا هدّد نائب رئيس التحرير ضاحكا، وبمبادرة لطيفة استعرض - أمام جميع الطاقم - تاريخه في الأخطاء في العشرين عامًا الماضية التي عمل فيها في مجال التحرير والترجمة الصحفية، وشارك بقية الطاقم بعدها وابلًا من الأخطاء التي تناسوها وتجاهلوها، لأن الخبر الصحفي "يوم يومين ويموت".

     شعرت بتحسن بعدها وما لبثت أن عدت إلى الترجمة ثانيةً، ليس كطبيب جراح شجاع فحسب، بل مثل جزار متعطش لقتل المزيد! لكن هذه المرة بتيقظ وحذر شديدين، حتى تكون الجريمة - الترجمة - كاملة وبلا آثار!


٤٦٠ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page