- بقلم: ميساء عابد
تساؤلات حول اللغة العربية في يومها العالمي!

عرّف العلماء الأوائل اللغة أنها "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم". ويقول نعوم تشومسكي: "إن اللغة توظيف مجموعة متناهية من الحروف، لتكوين مجموعة لا متناهية من الكلمات والجمل". فاللغة وسيلة التواصل، وهي القالب الذي ينقل المشاعر والأحاسيس والأفكار. وهي إرث كل أمة ومجدها الذي يحكي عزها وهويتها التي تحمل تاريخها. وماعزت لغة إلا بعز قومها وما وهنت وضعفت إلا بضعف هذه الأمة.
ولغتنا العربية يكفيها ويكفينا شرفًا أنها ارتبطت بالإسلام إذ هي لغة الوحي (القرآن الكريم) التي تكفل الرحمن الرحيم بحفظها إلى يوم الدين. وهي اللغة التي خصها المولى عز وجل بالبيان فقال تعالى في سورة الشعراء: "بِلـسانٍ عربِـي مبِينٍ".
هذه اللغة كانت رمز العلم والرقي والحضارة. لقد كان أهلها من السلف أشد ما يكونون حرصًا على تقويم أي اعوجاج ينال من ألسنتهم خوفًا على لسانهم العربي وإيمانًا منهم بأهمية ذلك. ورُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مرَّ على قوم يرمون نبلاً فعاب عليهم، فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين، "إنا قوم متعلمين" - والصواب "مُتعلِّمون" - فقال: لحْنكم أشد عليَّ من سوء رميكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((رحِم الله امرءا أصلح من لسانه)).
لقد بدأ الاهتمام العالمي باللغة العربية في الظهور منذ القرن العشرين للميلاد، وتحديدًا عام 1948، إذ اعتُمدت اللغة العربية رسميًا ثالث لغات العالم بعد الإنجليزية والفرنسية وذلك بناء على قرار تبنّـته منظمة اليونسكو. وتلا ذلك القرار بسنوات اعتماد اللغة العربية واحدة من لغات العالم التي تستخدم في المؤتمرات العالمية. وفي أكتوبر 2012 وعند انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لليونسكو وقع الاختيار على 18 من ديسمبر يومًا عالميًا للغة العربية، واحتفلت اليونيسكو أول مرة باللغة العربية في ذلك العام.
لقد ساهمت الثورة المعلوماتية في انتشار اللغة العربية والتعريف بها لشريحة أكبر من الناس رغم تحفظي على هذا الانتشار الذي لا يرقى إلى المستوى المأمول، فضلا عن أن هذا الانتشار لم يكن انتشارًا صحيًا تمامًا إذ إن الثورة المعلوماتية ساهمت في انتشار أكبر للهجات العامية عوضًا عن الفصحى. أما من النواحي الإيجابية فلقد أصبح هناك توسع في نشر المحتوى العربي وبرزت لنا مبادرات مشرفة حملت على عاتقها عبء التعريف بالمحتوى العربي وإثرائه، سواء كان ذلك كتابة أو ترجمة. كما أصبح تعلم اللغة العربية ونحوها وقواعدها في متناول اليد إلى حد ما، سواء كان ذلك مجانيًا أو مدفوعًا عبر مواقع الشبكة العنكبوتية.
ولكن أين نحن من هذا كله، هل حافظنا على هذا اللسان، هل ما زلنا نعتز بهذا الإرث العظيم! لماذا هانت علينا لغتنا. لماذا أصبحنا نعتز ونفتخر عند الحديث باللغات الأخرى وهجرنا لغتنا التي هي هويتنا! بل وأصبحنا نحرص ونتنافس على تعليم تلك اللغات لأبنائنا بدلًا من لغتهم الأم، وأضعف الإيمان أننا اكتفينا بالعامية بديلًا عن الفصحى التي سرعان ما سيهجرها أبناؤنا لاهثين وراء ثقافات لسانهم الجديد لأنها أصبحت هويتهم التي يفخرون بها. ألا ننظر لتلك الأمم التي نعتز بتعليم لغاتهم لأبنائنا وكيف أنهم حريصون على أن تكون لغتهم الأم أول ما ينطق به أبناؤهم (أليسوا هم قدوة لبعضنا في تعلم اللغة) فأين نحن من حرصهم هذا! أم هو تقليد أعمى سببه هوان أنفسنا علينا وقناعتنا بسطوة الآخر!
إن قلبي يعتصر ألمًا وأنا أرى ذلك الطفل الذي لم يكمل خمسة سنوات من عمره وهو يتحدث اللغة الأجنبية بطلاقة مع والديه، بينما لا يعرف شيئًا عن لسانه العربي وأتساءل في نفسي "متى سيقرأ هذا الصغير القرآن!". وكلما حدثني أحدهم بحرصه على تعليم أبنائه اللغة الأجنبية حتى يكتسب اللغة والمفردات واللسان الفصيح أتذكر جبران خليل جبران وطه حسين وإيليا أبو ماضي وغيرهم ممن كتب وأبدع بالإنجليزية والفرنسية في عمر الشباب بعد أن كتبوا وأبدعوا بالعربية، وكان ذلك نتيجة امتلاكهم فصاحة اللسان العربي وبلاغته وحسن بيانه، فأين نحن من هؤلاء!
هذه جملة تساؤلات تؤلمني وتقض مضجعي أضعها بين أيديكم وأترك إجاباتها لكم!
وفي النهاية أترككم مع هذا الاقتباس عن اللغة العربية الذي أحببت أن أشارككم إياه:
يقول الرافعي: "إن اللغة هي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودًا متميزًا قائمًا بخصائصه؛ فهي قومية الفكر، والدقة في تركيب اللغة دليل على دقة الملكات في أهلها، وعمقها هو عمق الروح ودليل الحس على ميل الأمة إلى التفكير والبحث في الأسباب والعلل، وكثرة مشتقاتها برهان على نزعة الحرية وطموحها؛ فإن روح الاستعباد ضيق لا يتسع، ودأبه لزوم الكلمة والكلمات القليلة.
وإذا كانت اللغة بهذه المنزلة، وكانت أمتها حريصة عليها، ناهضة بها، متسعة فيها، مُكبرة شأنها، فما يأتي ذلك إلا من كون شعبها سيد ومحقق وجوده، ومستعمل قوته، والآخذ بحقه، فأما إذا كان منه التراخي والإهمال وترك اللغة للطبيعة السوقية، وإصغار أمرها، وتهوين خطرها، وإيثار غيرها بالحب والإكبار؛ فهذا شعب خادم لا مخدوم، تابع لا متبوع، ضعيف عن تكاليف السيادة، لا يطيق أن يحمل عظمة ميراثه، مجتزئ ببعض حقه، مكتفٍ بضرورات العيش، يوضع لحكمه القانون الذي أكثره للحرمان وأقله للفائدة التي هي كالحرمان".